صعود اليسار في الانتخابات يسائل مستقبل العلاقات بين الرباط وباريس

صعود اليسار في الانتخابات يسائل مستقبل العلاقات بين الرباط وباريس

الانتخابات الفرنسية تحيي النقاش حول مستقبل العلاقات المغربية - الفرنسية

مفاجأةٌ تلك التي أفرزتها الانتخابات الفرنسية، بعد تصدر تحالف اليسار عبر "الجبهة الشعبية الجديدة"، نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية المبكرة، بانتزاعه 182 مقعدا برلمانيا في الجمعية الوطنية، أمس الاثنين، مقابل 168 مقعدا للمعسكر الرئاسي.

في هذا الإطار، يرى محللون سياسيون أن العنوان البارز للمشهد السياسي بفرنسا بعد الانتخابات هو « غياب الأغلبية المطلقة والتنافر الأيديولوجي والبرنامجي بين الكتل الثلاث الأكبر »، بعدما لم يتمكن أي حزب من الظفر بالأغلبية المطلقة لتنزيل أجندته على أرض الواقع، فيما يرى آخرون أن « وصول اليسار إلى الحكم بفرنسا ليس بالمفاجأة غير المنتظرة، وأنها سنة متبعة في آليات التداول التي يعرفها نظام الحكم بفرنسا خاصة في ظل الجمهورية الخامسة ».

ولا شك أن نتائج الانتخابات بفرنسا تعيد السؤال حول مستقبل العلاقات بين الرباط وباريس، وأي تأثيرات ممكنة لقيام حكومة يسارية عليها.

مصالح محفوظة للمغرب..

استشرافا للسيناريوهات المتوقعة لتأثيرات صعود اليسار إلى سدة الحكم بفرنسا على العلاقات المغربية، كشف محمد تاج الدين الحسيني، أستاذ القانون الدولي بجامعة محمد الخامس بالرباط، في تصريح لـ « منارة » أن مصالح المغرب سوف تبقى محفوظة في جميع الأحوال.

وقال الحسيني: « لاحظنا أن العلاقات المغربية الفرنسية عرفت نوعا من الشد والجذب، بكيفية متوالية عبر العقود الماضية، وحتى الأزمات الكبرى كانت تعتبر في نهاية المطاف بمثابة سحابة صيف يمكن تجاوزها ».

وأكد الحسيني أن العلاقات المغربية الفرنسية عرفت هذا الوضع منذ أزمة مقتل المناضل المغربي المهدي بن بركة، إضافة إلى إشكاليات مرتبطة مؤخرا بمسألة حصول المواطنين المغاربة على التأشيرة، وبعض مزاعم التجسس عن طريق برنامج « بيغاسوس » الإسرائيلي، ثم بعض الإشكالات الخاصة بموقف فرنسا من الوحدة الترابية المغربية.

ولفت ذات المتحدث: « رغم هذه الإشكاليات، كان هناك نوع من الإدراك بين الطرفين بأن هناك مصالح مشتركة ينبغي حمايتها، وخاصة على المستوى الاقتصادي، باعتبار أن فرنسا تعتبر الشريك الاقتصادي الثاني للمغرب بعد إسبانيا، ولها دور مهم في الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية » كما هو الحال على المستوى الأوروبي، إذ « يتوفر المغرب على ما يسمى « الوضع المتقدم » داخل أوروبا، وهو أقل من عضو، ولكنه أكثر من شريك، يتمتع بامتيازات سواء على مستوى التجارب الديموقراطية أو المساعدات الاقتصادية او الشراكات في عدة مجالات ».

وشدد أستاذ العلاقات الدولية، أن علاقات فرنسا بالمغرب محكوم عليها أن تتطور إيجابيا، بعدما عاشته فرنسا من انتكاسات في بلدان الساحل، والانقلابات العسكرية التي عرفتها كل من مالي وبوركينافاسو والنيجر السينغال في افريقيا الغربية، مشيرا إلى أن هذه الأوضاع أثرت سلبا على وضعها الاستراتيجي في هذه المنطقة، وهي في حاجة إلى دولة قوية كالمغرب تمكنها من إقامة منصة استراتيجية للتواصل المستقبلي مع بلدان القارة وهو الدور الذي يمكن للمغرب أن يلعبه بامتياز.

وخلص تاج الدين الحسيني إلى أن وصول اليسار أو اليمين إلى الحكم « لن يؤثر سلبا على هذه العلاقات، أو ربما تقع بعض الترجيحات فيما يتعلق بالمواقف المعلنة حول قضايا مشتركة أو قضية الوحدة الترابية، غير أنها ستكون تغييرات طفيفة لا تأثير لها غالبا على جوهر العلاقات بين الطرفين ومستقبلها ».

علاقات تتجاوز المحطات الانتخابية

من جانبه، أوضح محمد بودن، الخبير في الشؤون الدولية المعاصرة، أن العلاقات المغربية الفرنسية محكومة بأرضية تعاقدية وسياسية موجهة نحو المستقبل، تتجاوز المحطات الانتخابية بحكم الصداقة المتفردة وتنوع مجالات الشراكة الاستراتيجية التي تجمع البلدين.

وفي تصريح لـ « منارة »، قال بودن: « بناءً على ما أفرزته الانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة، فإنه من السابق لأوانه معرفة شكل الحكومة الفرنسية وأفقها السياسية، وما إن كانت حكومةً قادرة على ترجمة استحقاقات العلاقات بين البلدين على أرض الواقع وفي مدى زمني متوسط ».

وتابع المصدر ذاته، « إذا افترضنا أن الحكومة الفرنسية ستكون يسارية ويقودها جون لوك ميلونشون، أو مارين تونديلييه، أو أوليفييه فور، أو كليمنتين أوتين، أو رفائيل جلوكسمان، أو فرنسوا روفين، أو جوان رولاند، فإن أغلب هذه الشخصيات البارزة في الجبهة الشعبية تتفهم انشغالات المغرب وقضاياه الأساسية، ويمكن استحضار الموقف الفرنسي من قضايا المغرب في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند ».

وبالنسبة للمغرب، أكد بودن أن الصحراء المغربية « هي الموضوع الرئيسي للعلاقات المغربية الفرنسية في الوقت الراهن، والتعاون في مختلف المجالات هو الهدف العام، ولذلك فمن الممكن أن يتضح الاتجاه الإيجابي للعلاقات المغربية الفرنسية في أقرب وقت، مع استمرار الآليات الدبلوماسية الثنائية في بذل قصارى الجهود لإزالة مختلف العقبات وتقديم توضيحات إضافية لتحقيق اقتران بين الأقوال والأفعال ».

وفي هذا الإطار، يرى الخبير في الشؤون الدولية المعاصرة أنه على الرغم من صلاحيات رئيس الجمهورية في السياسة الخارجية « فإن حكومة فرنسية واقعية تعرف حجم مصالح فرنسا مع المغرب، يمكن أن تتيح فرصة جديدة للانتقال من سوء الفهم إلى التفاعل وتجديد النقاش المغربي – الفرنسي حول المرحلة القادمة ومختلف الاستحقاقات الثنائية في أفق بناء تفاهمات مغربية – فرنسية مشتركة في إطار رفيع المستوى وبعيد المدى، وتجديد حيوية الصداقة التقليدية برعاية جلالة الملك محمد السادس والقيادة في فرنسا ».

وتابع المتحدث: « المغرب بلد مهم لفرنسا، وفرنسا ذات أهمية بالنسبة للمغرب، والعلاقات مهمة بينهما أيضا بسبب أطراف ثالثة، وهذه العلاقات محاطة اليوم بتطلعات ضرورية، وبالتالي فإن أي تفاعل إيجابي من الدبلوماسية الفرنسية يمثل علامةً على تطور قادم، إذا ما كان مسنودا بالالتزامات المطلوبة وخدمة المصالح الوطنية الحاسمة للبلدين ».

وأشار « فرنسا تدرك اليوم أن ملف الصحراء المغربية مسألة وجودية بالنسبة للمغرب وهي المحور الأساسي لأفق أرحب في العلاقات معه، وبالتالي فإن إضافة أبعادٍ أخرى للعلاقات يعتمد على هذه الركيزة المحورية ومن المؤكد أن فرنسا تأخذ بعين الاعتبار موقعها بين الشركاء التجاريين للمغرب، وهي التي كانت في المقدمة لفترات طويلة، وتحتل الرتبة الثانية بقيمة تبادل يقارب 14 مليار يورو (إسبانيا 20 مليار يورو)، فضلا عن إيلاء فرنسا لأهمية التنسيق الأمني والتشاور السياسي مع المغرب.

لا بد من الإشارة إلى أن اليسار والوسط واليمين المتطرف، لم يتركوا أي فصيل قريب حتى من الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة، ما يعني أن أيا من الكتل الثلاث لن تتمكن من تشكيل حكومة أغلبية وستحتاج بالضرورة إلى دعم من الآخرين لتمرير التشريع.

هذا الانقسام في الخريطة السياسية الفرنسية، الذي ترك الحكومة في مأزق وبدأ ينذر بإفراز جمود سياسي طويل الأمد، هو عكس ما راهن عليه ايمانوييل ماكرون بالدعوة إلى انتخابات مبكرة لمنح فرنسا « لحظة من الوضوح »، وهو القرار الذي رفضه رئيس الوزراء غابرييل أتال، ليعلن عزمه على تقديم استقالته الاثنين، قبل أن يطلب منه ماكرون، الذي عينه قبل 7 أشهر، البقاء في منصبه لضمان استقرار البلاد.